سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة، وفي تكرارها فائدتان: الأولى: أن عمومات الوعيد وعمومات الوعد متعارضة في القرآن، وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين، وقد أعاد ههذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة، وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد، فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد، وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد.
والفائدة الثانية: أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع، وقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} [النساء: 115] إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده، فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروماً عن رحمتي، ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروماً قطع عن رحمة الله، ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيداً، فلا جرم لا يصير محروماً عن رحمتي، وهذه المناسبات دالة قطعاً على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً سواء حصلت التوبة أو لم تحصل، ثم إنه تعالى بيّن كون الشرك ضلالاً بعيداً فقال: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً لَّعَنَهُ الله} {إن} هاهنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] و{يَدْعُونَ} بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فإنه يدعوه عند احتياجه إليه، وقوله: {إِلاَّ إناثا} فيه أقوال: الأول: أن المراد هو الأوثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم: الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز.
قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان، ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها: إلا أوثاناً، وقراءة ابن عباس: إلا أثنا، جمع وثن مثل أسد وأسد، ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله: {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} [المرسلات: 11] قال الزجاج: وجائز أن يكون أثن أصلها أثن، فأتبعت الضمة الضمة.
القول الثاني: قوله: {إِلاَّ إناثا} أي إلا أمواتاً، وفي تسمية الأموت إناثاً وجهان:
الأول: أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى، تقول: هذه الأحجار تعجبني: كما تقول: هذه المرأة تعجبني.
الثاني: أن الأنثى أخس من الذكر، والميت أخس من الحي، فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات.
القول الثالث: أن بعضهم كان يعبد الملائكة، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله قال تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى} [النجم: 27] والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السماوات والأرض وما بينهما جماداً يسميه بالأنثى.
ثم قال: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} قال المفسرون: كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم، وقال الزجاج: المراد بالشيطان هاهنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ولا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس، وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له: مارد ومريد، قال الزجاج: يقال: حائط ممرد أي مملس، ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس، فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء.
ثم قال تعالى؛ {لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} وفيه مسألتان.
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف: قوله: {لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ} صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع.
واعلم أن الشيطان هاهنا قد ادعى أشياء: أولها: قوله: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} الفرض في اللغة القطع، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر، والفرض الحز الذي في الوتر، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتماً عليهم قطعاً لعذرهم، وكذا قوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] أي جعلتم لهن قطعة من المال.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك: لأتخذن من عبادك حظاً مقدراً معيناً، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه، وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس».
فإن قيل: النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عدداً من حزب الله.
أما النقل: فقوله تعالى في صفة البشر {فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] وقال حاكياً عن الشيطان {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62].
وحكي عنه أيضاً أنه قال: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82، 83] ولا شك أن المخلصين قليلون.
وأما العقل: فهو أن الفساق والكفار أكثر عدداً من المؤمنين المخلصين، ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس.
إذا ثبت هذا فنقول: لم قال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً} مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر، وإنما يتناول الأقل؟
والجواب: أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين، وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس.
وثانيها: {ولأَضِلَّنَّهُمْ} يعني عن الحق، قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا.
فالأصل الأول: المضل هو الشيطان، وليس المضل هو الله تعالى قالوا: وإنما قلنا: أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه، ونظيره قوله: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] وأيضاً أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلاً للناس في معرض الذم له، وذلك يمنع من كون الإله موصوفاً بذلك.
والأصل الثاني: وهو أن أهل السنة يقولون: الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا: ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال.
والجواب: أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة، وأيضاً أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جداً، فتارة يميل إلى القدر المحض، وهو قوله: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله: {رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى} [القصص: 39] وتارة يظهر التردد فيه حيث قال: {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] يعني أن قول هؤلاء الكفار: نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين؟ ولا بدّ من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله.
وثالثها: قوله: {وَلأَمَنّيَنَّهُمْ} واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال: {وَلأمَنّيَنَّهُمْ} وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق، وطلب الأماني يورث شيئين: الحرص والأمل، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان الحرص والأمل».
والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.
ورابعها: قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام} البتك القطع، وسيف باتك أي قاطع، والتبتيك التقطيع.
قال الواحدي رحمه الله: التبتيك هاهنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها.
وقال آخرون: المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكاً في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق.
خامسها: قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} وللمفسرين هاهنا: قولان: الأول: أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة، وفي تقرير هذا القول وجهان:
الأول: أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
والوجه الثاني: في تقرير هذا القول: أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً أو الحرام.
القول الثاني: حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر، وذكروا فيه وجوهاً الأول: قال الحسن: المراد ما روى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواصلات والواشمات».
قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا.
الثاني: روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله هاهنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً عوروا عين فحلها.
الثالث: قال ابن زيد هو التخنث، وأقول: يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع: حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون، فغيروا خلق الله، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي هاهنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه: التشوش، والنقصان، والبطلان. فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين، وضرر الدين هو قوله: {وَلأمَنّيَنَّهُمْ} وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الانعام} وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى، ومن المعلوم أن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة ألبتة، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر، وهي متوجهة إلى عالم القيامة، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لابد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييراً للخلقة، وهو كما قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فأنساهم أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] وقال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِي الصدور} [الحج: 46].
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} واعلم أن أحداً لا يختار أن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان ولياً لنفسه وترك ولاية الله تعالى، وإنما قال: {خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة، والجمع بينهما محال عقلاً، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق.
ثم قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره، فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الأنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لابد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاماً وأعظم تأثيراً في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية.
ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه، والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذاً إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} المحيص المعدل والمفر.
قال الواحدي رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لابد لهم من ورودها.
الثاني: التخليد الذي هو نصيب الكفار، وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله: {وَلاَ يَجِدُونَ} عائد إلى الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين قال الشيطان: لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً.
والأظهر أن الذي يكون نصيباً للشيطان هم الكفار.
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا}.
وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر {خالدين فِيهَا أَبَداً} ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل، فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام، وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار، وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع.
ثم قال: {وَعْدَ الله حَقّا} قال صاحب الكشاف: هما مصدران: الأول: مؤكد لنفسه، كأنه قال: وعد وعداً وحقاً مصدر مؤكد لغيره، أي حق ذلك حقاً.
ثم قال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} وهو توكيد ثالث بليغ. وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة، والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه، وقرأ حمزة والكسائي {أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} باشمام الصاد الزاي، وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو {قَصْدُ السبيل} [النحل: 9] {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] والقيل: مصدر قال قولاً وقيلاً، وقال ابن السكيت: القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى:


{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)}
قوله تعالى: {لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأمنية أفعولة من المنية، وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمنيتهِ} [الحج: 52].
المسألة الثانية: {لَّيْسَ} فعل، فلابد من اسم يكون هو مسنداً إليه، وفيه وجوه:
الأول: ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى} [النساء: 122] الآية، بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح.
الثاني: ليس وضع الدين على أمانيكم.
الثالث: ليس الثواب والعقاب بأمانيكم، والوجه الأول أولى لأن إسناد {لَّيْسَ} إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور.
المسألة الثالثة: الخطاب في قوله: {لَّيْسَ بأمانيكم} خطاب مع من؟ فيه قولان: الأول: أنه خطاب مع عبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون هناك حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله، وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فلا يعذبنا، وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
القول الثاني: أنه خطاب مع المسلمين، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيّين، وكتابنا ناسخ الكتب، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات، وليس لقائل أن يقول: هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أن العام بعد التخصيص حجة، والثاني: أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، فهاهنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه.
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً وأحاطت بِهِ خَطِيئَته فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} [البقرة: 81] والذي نزيده في هذه الآية وجوه:
الأول: لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام، والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر، أما القرآن فهو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض، أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه» وعن أبي هريرة رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه».
الوجه الثاني في الجواب: هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم القيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته، ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114].
وأما الخبر: فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة، وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً فكيف الجزاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويلٌ لمن غلبت آحاده أعشاره».
وأما المعقول: فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل، فيبقى حينئذٍ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة.
الوجه الثالث في الجواب: أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ اثنى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [النساء: 124] فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية، وقولهم: خرج عن كونه مؤمناً فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن، مثل قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} إلى قوله: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} [الحجرات: 9] سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً، وقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمناً، وقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله} [التحريم: 8] سماه مؤمناً حال ما أمره بالتوبة، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا كان مؤمناً كان قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة، فوجب أن يكون قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} مخصوصاً بأهل الكفر.
الوجه الرابع في الجواب: هب أن النص يعم المؤمن والكافر، ولكن قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] أخص منه والخاص مقدم على العام، ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان.
المسألة الثانية: دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا} يتناول جميع المحرمات، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله: {يُجْزَ بِهِ} يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا.
قلنا: إنه لابد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون تنعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم هاهنا أكمل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر».
وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: دلت الآية على أن العبد فاعل، ودلت أيضاً على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء، وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد، وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه لما كان عملاً للعبد امتنع كونه عملاً لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد بقادرين، والثاني: أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل، لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله، وأعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}.
قالت المعتزلة: دلت الآية على نفي الشفاعة، والجواب من وجهين:
الأول: أنا قلنا أنَّ هذه الآية في حق الكفار.
والثاني: أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى، وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى ثم قال تعالى:


{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}
قال مسروق: لما نزل قوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {يَدْخُلُونَ الجنة} بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن، والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعاً على أن الدخول مضاف إليهم، وكلاهما حسن، والأول أحسن لأنه أفخم، ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق {وَلاَ يُظْلَمُونَ} وأما القراءة الثانية فهي مطابقة لقوله تعالى: {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم} [الزخرف: 70] ولقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ} [الحجر: 46] [ق: 34]، والله أعلم.
المسألة الثانية: قالوا: الفرق بين {مِنْ} الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض، والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات، بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمناً استحق الثواب.
وأعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلداً في النار، بل ينقل إلى الجنة، وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإذا ثبت هذا فنقول: إن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلّى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة، ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار، فأما أن يدخل الجنة ثم ينقل إلى النار فذلك باطل بالإجماع، أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه، والله أعلم.
المسألة الثالثة: النقير: نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة.
فإن قيل: كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وقال: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} [آل عمران: 108].
والجواب من وجهين:
الأول: أن يكون الراجع في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ} عائداً إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعاً، والثاني: أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق، فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق.

29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36